من أسرار الإعجاز البياني في سورة القيامة
قال
الله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ
عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ
يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
* يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ
الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ *
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ * كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ
الْآَخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ *
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ
أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ
يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ
عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
﴾( القيامة : 1- 40 )
أولاً- سورة القيامة مكية بلا خلاف ، وآياتها
أربعون ، وهي تعالج موضوع البعث والجزاء الذي هو أحد أركان الإيمان ،
وتركِّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها ، والساعة وشدائدها ، وعلى حالة
الإنسان عند الاحتضار ، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب؛
ولذلك سمِّيت : سورة القيامة .
تبدأ السورة الكريمة بالتلويح بالقسم
بيوم القيامة ، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ لا ريب فيه . ثم تذكر
طرفًا من ذلك اليوم المهول الذي يتحيَّر فيه البصر ، ويُخْسَف فيه القمر ،
ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب والجزاء .
وتتحدَّث السورة الكريمة
عن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن الكريم ، عند تلاوة
جبريل- عليه السلام- فقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه في متابعة
جبريل عليه السلام ، ويحرِّك لسانه معه ؛ ليسرع في حفظ ما يتلوه ، فأمره
الله تعالى أن يستمع للتلاوة ، ولا يحرِّك لسانه به .
وتذكر السورة
الكريمة انقسام الناس إلى فريقين : سعداء ، وأشقياء . فالسعداء وجوههم
مضيئة ، تتلألأ بالأنوار ، ينظرون إلى الرب جل وعلا . والأشقياء وجوههم
مظلمة قاتمة ، يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة .
ثم تتحدَّث السورة عن حال المرء
عند الاحتضار ، حيث تكون الأهوال والشدائد ، ويلقى الإنسان من الكرب
والضِّيق ما لم يكن في الحسبان . وتختتم بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة
والبراهين العقلية .
ثانيًا- هذه السورة الكريمة- كغيرها من سور
القرآن الكريم- حافلة بأسرار البيان المعجز الذي أعجز أرباب الفصاحة
والبيان . وأول ما يطالعنا من هذه الأسرار البديعة المعجزة :
1- سر دخول ﴿ لَا ﴾ النافية على الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ في الآيتين : الأولى والثانية :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)
ويكاد
يجمع العلماء- قديمًا وحديثًا- على القول بأن ﴿ لَا ﴾ هذه زائدة لتوكيد
القسم ، في حين ذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم ، وذهب آخرون إلى أنها
نافية لكلام تقدم ذكره ، ثم ابتدىء بالقسم .. إلى غير ذلك من الأقوال . ومن
العلماء المعاصرين الذين تحدثوا عن الخلاف في ﴿ لَا ﴾ هذه الدكتور فاضل
السامرَّائي ، وهو أشهر من أن يعرَّف به ، ففي كتابه الغنيِّ عن التعريف {
لمسات بيانية في نصوص من التنزيل } تحدث الدكتور فاضل عن لمسات بيانية في
سورة { البلد } ، وقد سأل السؤال الآتي : ما دلالة ( لا ) في القسم ؟ ثم
أجاب بقوله :« أولاً- لم يرد في القرآن كلّه ( أقسم بـ ) أبدًا . كل القسم
في القرآن ورد باستخدام ( لا ) ؛ كقوله تعالى لا أقسم بمواقع النجوم ) ، ( ولا أقسم بالخنّس ) ، ( فلا وربّك لا يؤمنون ) .. وهكذا في القرآن كله .
فما هي ( لا ) ؟ اختلف النحاة في دلالة ( لا ) : كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا ، يقولون
لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى : أقسم ؛ مثال قولنا : والله لا أفعل ،
معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا
يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة.. وقسم يقولون : هي للنفي . أي : نفي
القسم . والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه ، فلا داعي للقسم .
وقسم قال : إنها تنفي لغرض الاهتمام ؛ كأن تقول : لا أوصيك بفلان ، بمعنى :
لا أحتاج لأن أوصيك .. وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في
كل هذه الأمور ، على أنها توكيد للقسم ، بمعنى : { أقسم بهذا البلد } . إذن
الغرض للتوكيد ؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام » .
هذا ما قاله
فضيلته بنصِّه ، وهو مدوَّن في كتاب ، وليس جوابًا ارتجاليًّا مباشرًا على
الهواء ، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل ، حتى
يستطيع فهمه ؛ لأنه أشبه بالألغاز ، وإلا فكيف يمكن أن يفهم قوله :« والله
لا أفعل ، معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا
أفعل . لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة » ؟ أو كيف يمكن أن يفهم قوله
:« وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور ، على
أنها توكيد للقسم ، بمعنى :{ أقسم بهذا البلد } . إذن الغرض للتوكيد ؛ لأن
الأمر فيه عناية واهتمام » ؟ هذا إلى ما فيه من خلط واضح بين نفي القسم ،
ونفي الحاجة إلى القسم . وبين قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ ، وقوله تعالى
:﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .
وكأن الدكتور فاضل أحس بما
في كلامه من اضطراب وخلط ؛ ولذلك نجده قد رجع عنه في حديثه عن { لمسات
بيانية في سورة القيامة } إلى القول :« وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير
إنما هو لون من ألوان الأساليب في العربية . تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو
ينكره ، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده ؛ لكنك تقول له : لا داعي أن أحلف لك
على هذا . أو لا أريد أن أحلف ؛ لأن الأمر على هذه الحال . ونحوه مستعمل في
الدارجة عندنا نقول : ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت . أو ما أحلف لك بالله
؛ لأن الحلف بالله عظيم إن الأمر على غير ما تظن ، فأنت تخبره بالأمر ،
وتقول له : لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر . أو كما ذهبت إليه
الدكتورة بنت الشاطئ ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد » .
ومثل
هذا الخلط نجده عند ابن عاشور ، يدل على ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى :﴿
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ (الواقعة: 75) ، قال :« و{ لا
أقسم } بمعنى : أقسم ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد . وأصلها : نافية ، تدل على
أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم .
وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم ؛ لأن الأمر واضح الثبوت . ثم كثر هذا
الاستعمال ، فصار مرادًا تأكيد الخبر ، فساوى القسم ، بدليل قوله عقبه :﴿
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾(الواقعة: 76) » .
ثم
قال في سورة البلد :« و { لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم ، وأصلها : أنها
امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث ،
فشاع استعمال ذلك في كل قَسَم يراد تحقيقه ، واعتبر حرف ( لا ) كالمزيد ؛
كما تقدم عند قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ » .
لاحظوا
قوله :« و { لا أقسم } بمعنى : أقسم ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد » . ثم
تأملوا قوله :« وأصلها : نافية ، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما
أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم » . وقوله:« وأصلها : أنها امتناع
من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث » . وتذكروا
أن المُقسِم- هنا- هو الله عز وجل !
والله جل شأنه عندما يقول :﴿
لَا أُقْسِمُ ﴾ فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط ، وهو أنه تعالى ليس
بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم
عليه حقٌّ ، لا ريب فيه ؛ لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد
حقِّيَّتَه وثبوته ؛ كالبعث والنشور في هذه السورة الكريمة . والفرق واضح
كل الوضوح بين أن نقول :{ أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق } ، وبين أن
نقول :{ لا أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق } . فالأول يجعل من البعث
أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب ، بخلاف الثاني .
وإذا
علمنا الفرق بين الجملتين السابقتين ، أدركنا سرَّ دخول ﴿ لَا ﴾ النافية
على فعل القسم في هذه السورة ، وفي غيرها من السور التي يكون فيها ضمير
الفعل عائدًا على الله جل وعلا ، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة
الثابتة .
ومن هنا يمكننا القول بأن ﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ في القرآن ،
ليس بقسم مباشر ، ولا هو نفي للقسم ، أو نفي لغيره ؛ بل هو تلويح بالقسم ،
وعدول عنه لعدم الحاجة إليه . وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال
سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر ، وهو أسلوب ، ذو
تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنها ثابتة واضحة .
وهذا هو سر البيان في هذا التركيب القرآني الذي ما زال الناس في تفسيره
يتخبطون !
وأما الفرق بين ﴿ لَا ﴾ في قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ، وفي قوله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ ﴾(النساء: 65) فيبيِّنه أن الأولى موصولة بالقسم ، وأن الثانية
منفصلة عنه ، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما .
وأما الفرق بين
نفي القسم ، ونفي الحاجة إلى القسم ، فقد أجابت عنه الدكتورة بنت الشاطىء
بقولها :« وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون ﴿ لَا ﴾ لنفي القسم- كما قال
بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم ؛ كما يهدي إليه البيان القرآني
. ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد ، والتقرير ؛ لأنه يجعل المقام
في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام . والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في
قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي ، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى
الانتباه ، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى
القسم ، فنقول لمن نثق فيه : لا تقسم . أو : من غير يمين ، مقررين بذلك أنه
موضع ثقتنا ، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا » .
وأما القول بأن { لا
أقسم } بمعنى :{ أقسم } ، بدليل قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾(الواقعة: 76 ) فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل
عتوك في مقاله ( سر دخول { لا } النافية على فعل القسم ) الموجود على هذا
الرابط :
http://www.bayan7.com/bayan888/modules/xfsection/article.php?articleid=56
وفي جوابه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي .
2- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل ﴿ نَجْمَع ﴾ بـ﴿ لََنْ ﴾ ، وتخيصه بالعظام ، في قوله تعالى :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
لمَّا
عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح
به ، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه ، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال :﴿ لَا
أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ ﴾، ﴿ لَتُبْعَثُنَّ ﴾ ؛ ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة ،
وجيء به في صورة أخرى ؛ كأنها ابتداء لحديث ، بعد التنبيه إليه بهذا المطلع
الذي يوقظ الحس والمشاعر :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
وقد
كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية ،
الذاهبة في التراب ، المتفرقة في الثرى ، لإعادة بعث الإنسان حيًّا ! وهي
مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا !
وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين ، من ذلك قوله تعالى
حكاية عنهم :
﴿ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ ﴾(الواقعة: 47- 48)
والقرآن الكريم يرد عليهم بقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾(الواقعة: 49- 50)
ونحو ذلك قوله تعالى :
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾(يس: 78)
ويأتي الرد من الله تعالى :
﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾(يس: 79)
ومثل ذلك قوله تعالى هنا :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم ، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم ، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه :
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾(القيامة: 4)
والمعنى
: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟
بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة ، ونجعلها كما
كانت قبل الموت ، فكيف بالعظام الكبار ؟!
وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى ، في آخر السورة ، فقال سبحانه :
﴿
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ
مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ
مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 36- 40)
والاستفهام في
قوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ﴾ لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ
عليه . والتعريف في ﴿ الْإِنْسَانُ ﴾ تعريف الجنس ، والمراد به هنا جنس
الكافر المنكر للبعث .
و﴿ لََنْ ﴾ في قوله تعالى :﴿ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ أداة لنفي المستقبل ، وهي في مذهب الخليل مركبة من (
لا ) النافية ، و( أن ) المصدرية . ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم
المفعول عليها ؛ لأنه يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط .
ومن
خواصِّها : أنها تنفي الفعل في المستقبل بعد أن كان محتملاً للحال . وبيان
ذلك : أنك إذا قلت : يسرني أن يقوم زيد خطيبًا ، دلت ( أن ) على إمكان
القيام . فإن قلت : لن يقوم ، دلت ( لن ) على نفي إمكان القيام الذي دلت
عليه ( أن ) . فإذا ثبت ذلك ، فمعنى ( لن ) هو نفيُ الإمكان بـ( أن ) .
ومن
خواصِّ ( لن ) أيضًا أنها تنفي ما قرُب ، ولا يمتدُّ معنى النفي فيها
كامتداده في ( لا ) ، إذا قلت : لا يقوم ؛ لأن ( لا ) هي لام بعدها ألف ،
يمتدُّ بها الصوت ما لم يقتطعه تضييق النَّفَس ؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد
معناها. و( لن ) بخلاف ذلك ؛ ولهذا كان ظاهر اللفظ والمعنى يقتضي أن يقال
:« أيحسب الإنسان أن لا نجمع عظامه » ، بدلا من قوله تعالى :﴿ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؛ ولكن عدل عن الأول إلى الثاني ؛ لأن العرب- كما قال
الشيخ السهيلي رحمه الله- تنفي بـ( لن ) ما كان ممكنًا عند المخاطب ،
مظنونًا أن سيكون ، فتقول له : لن يكون ، لما يمكن أن يكون ؛ لأن ( لن )
فيها معنى ( أن ) . وإذا كان الأمر عندهم على الشك ، لا على الظن- كأنه
يقول : أيكون ، أم لا يكون- قلت في النفي : لا يكون .
تأمل ذلك في
قوله تعالى :﴿ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾(الحج:
73) ، كيف جاء النفي فيه بـ( لن ) دون ( لا ) ، لظنِّ المشركين أن الآلهة
التي يعبدونها من دون الله جل وعلا ، قادرة على الخلق . فإذا علمت ذلك ،
تبين لك سر النفي بـ( لن ) دون ( لا ) في قوله تعالى :﴿ أَلَّنْ نَجْمَعَ
عِظَامَهُ ﴾ . ولو قيل :﴿ أَنْ لَا نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ، لأفاد ذلك خلاف
المراد .
وأما سرُّ تخصيص فعل الجمع بالعظام فلأن العظام هي قالب
النفس ، لا يستوي الخَلْقُ إلا باستوائها ، وأنها أبعد شيء عن الحياة بعد
البلى . وجمعها بعد البلى لا قدرة لأحد عليه سوى الله الذي خلقها أول مرة ،
سبحانه وتعالى ! قال ابن قيِّم الجوزيَّة :« الذي أحصاه المشرحون من
العظام في البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا ، سوى الصغار السَّمسَميَّات
التي أحكمت بها مفاصل الأصابع ، والتي في الحنجرة . وقد أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً . فإن كانت
المفاصل هي العظام ، فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا ،
لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم . وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل
بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام ..
فتأمله ! » .
3- والسر الثالث من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ
اختيار لفظ البنان ، وتخصيصه بالتسوية في قوله تعالى :﴿ بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾(القيامة: 4) . و﴿ بَلَى ﴾ حرف جواب ،
ولها موضعان :
الموضع الأول : أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(النحل: 28) . أي : بلى ! قد عملتم السوء .
والموضع
الثاني : أن تقع جوابًا لاستفهام دخل عليه نفي حقيقة ، فيصير معناها
التصديق لما قبلها ؛ كقولك : ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول : بلى !
أي : كنت صديقي . ومنه قوله تعالى :
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾
؟ ﴿ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ﴾(الملك: 8- 9) ،
فهي في هذا الموضع تصديق لما قبلها ، وفي الأول ردُّ لما قبلها ، وتكذيب .
ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقًا ، حقيقيًّا كان ، أو مجازيًّا ؛ فالمجازي كقوله تعالى :
﴿
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ ؟ ﴿ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ﴾(الأعراف: 172) .
أي : بلى ! أنت ربنا . فإن الاستفهام هنا ليس على حقيقته ؛ بل هو للتقرير ؛
لكنهم أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده بـ﴿ بَلَى ﴾ . قال
ابن عباس رضي الله عنهما :« لو قالوا : نعم ، لكفروا » . ووجهه أن لفظة (
نعم ) تصديق لما بعد الهمزة ، نفيًا كان ، أو إثباتًا . والحقيقي كقوله
تعالى :
﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ﴾ ؟ ﴿ بَلَى ﴾(الزخرف: 80)
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؟ ﴿ بَلَى قَادِرِينَ ﴾(القيامة: 3- 4)
ومن
ثمَّ قال الجمهور : التقدير : بلى ! نجمعها قادرين ؛ لأن الحسبان إنما يقع
من الإنسان على نفي جمع العظام ، و﴿ بَلَى ﴾ إثبات فعل النفي ، فينبغي أن
يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب .
وقوله تعالى :﴿
قَادِرِينَ ﴾ حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر . وفيه بعد الدلالة على
التقييد ، تأكيد لمعنى الجمع ؛ لأن الجمع من الأفعال التي لابدَّ فيها من
القدرة ، فإذا قُيِّد بالقدرة البالغة ، فقد أُكِّدَ .
والبنان في
قوله تعالى :﴿ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ يطلق في اللغة ، ويراد به :
الأصابع ، وأطرافها . وقيل : سمِّيت الأصابع بذلك ؛ لأن بها صلاح الأحوال
التى يمكن للإنسان أن يَبْني بها . قال تعالى :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ
كُلَّ بَنَانٍ ﴾(الأنفال: 12) . أي : الأصابع ، أو أطرافها ؛ لأجل أنهم بها
يقاتلون ، فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا بضرب بنانه .
والمراد بها
في قوله تعالى :﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ
﴾(القيامة: 4) أطراف الأصابع . وهذه الآية الكريمة من أقوى الأدلة على جمع
أجزاء الإنسان المتفرقة ، وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية على ذلك ؛ إذ
تؤكد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهو تسوية البنان ،
وتركيبه في موضعه كما كان ، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما
فيه ، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ، ولا تختل عن مكانها ؛ بل تُسوَّى
تسويةً كاملة ، مهما صغُرت ودقَّت ! وبهذا يُعلَم سرُّ تخصيص لفظ ( البنان )
بالذكر- ههنا- دون غيره .
وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر ؛
إذ تبين أن البشرية بأسرها ، قد ميَّز الله العليم القادر بين جميع أفرادها
بميزة ، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم ، حتى الأب مع ابنه .. تلك
الميزة هي اختلاف البنان ، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان . فثبت
بذلك أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته ، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة
الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية ، ونشأ عن ذلك علم ، سمِّي :« علم تحقيق
الشخصيَّة » .
فإذا كان الأمر كذلك ، وقد أخبر تعالى أنه قادر على
جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته ، فكيف يستبعد
الجاحد على من هذه قدرته ، إعادته إلى الحياة مرة أخرى ؟ وبالتالي فالآية
نصٌّ صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة ، حتى أصغر وأدق جزء منها ، ودليلٌ على
أن بدن الإنسان يتفرق ، ولا ينعدم .
وهكذا نرى أن قوله تعالى :﴿
أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ يدل على معنى لم يكشف العلم سره ، إلا بعد نزول
القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة ، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة ،
تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر . وصدق رب العزة
حين قال :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾(فصلت: 53)
4- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار :
ومن
ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين : الأولى والثانية . وفي الآيتين :
الثامنة والتاسعة . وفي الآيتين : الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين .
أ- أما التكرار في الآيتين الأولى والثانية :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ * ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)
ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة ، وبالنفس اللوَّامة .
والثاني : أنه أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة .
والثالث : أنه لم يقسم بهما .
وقد
سبق أن ذكرت أن قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ ليس بقسم مباشر ؛ بل هو
تلويح بالقسم وعدول عنه ، لعدم الحاجة إليه . وأن ﴿ لَا ﴾ جيء بها قبل
الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ ، لنفي الحاجة إلى القسم ، ولم يؤتَ بها لغرض آخر .
وهذا هو سرُّ البيان فيها . وأما تكرارها مع الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ ففيه سرٌّ
آخرُ من أسرار البيان ، وبيان ذلك أنه لو قيل :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ ، احتمل ذلك معنيين :
أحدهما : نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين .
والثاني : نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما ، دون الآخر .
وأما قوله تعالى :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾
فيدل
على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين . وهذا يعني أن التكرار
هنا مقصود ، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها
على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة ، وإيقاع النفس اللوَّامة ؛ وكأن هذا
المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد
إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة .
أما يوم القيامة فقد
ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره ، وسيمر بنا شيء من
هذا الوصف .. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة ، كلها
متقاربة المعنى ، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله
:« إن المؤمن ، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت
بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا ، ما يعاتب نفسه » .
وعنه أيضًا :« ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة
» .
يقول سيد قطب رحمه الله :« فهذه النفس اللوَّامة ، المتيقظة
التقية ، الخائفة المتوجِّسة التي تحاسب نفسها ، وتتلفت حولها ، وتتبين
حقيقة هواها ، وتحذر خداع ذاتها ، هي النفس الكريمة على الله ، حتى ليذكرها
مع يوم القيامة . ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة ، نفس الإنسان الذي
يريد أن يفجر أمام خالقه ، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة ، مستبعًدا
وقوعه ، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه ، ودون تلوُّم ، ولا
تحرُّج ، ولا مبالاة ! » .
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴾(القيامة: 5- 6)
والسؤال
بـ﴿ أَيَّانَ ﴾ هذا اللفظ المديد الجرس ، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا
اليوم الواقع لا محالة ؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر ، ويمضي في فجوره
، لا يصدُّه شبح البعث ، وشبح الآخرة . والآخرة لجام للنفس الراغبة في
الشر ، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور ، فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ ،
وإزاحة هذا اللجام ؛ لينطلق في الشر والفجور بلا حساب ليوم الحساب . ومن
ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة ، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا
حاسمًا ، ليس فيه تريث ، ولا إبطاء ، حتى في إيقاع النظم ، وجرس الألفاظ .
﴿
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا
لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ
الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ
عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة: 7- 15)
ب- وأما التكرار في الآيتين الثامنة والتاسعة :
﴿ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴾ * ﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾(القيامة: 8- 9)
فالمراد
به تكرار لفظ ( القمر ) . والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في
الآية الثانية بغير الخبر في الأولى . فخَسْفُ القمر غير جمعه مع الشمس .
وخسفه معناه : ذهاب ضوئه وإظلامه . قال أبو حاتم محمد بن إدريس :« إذا ذهب
بعضه فهو كسوف ، وإذا ذهب كله فهو الخسوف » .
وغلِّب المذكر على المؤنث في الآية الثانية ، لاجتماع الشمس والقمر . ولو قيل
طلع الشمس والقمر ) ، بدلاً من قوله تعالى :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ ﴾، لقبح ؛ كما يقبح أن يقال : قام هند وزيد ؛ إلا أن يراد
بالواو : الواو الجامعة ، لا العاطفة . وأما في الآية الكريمة فلا بد أن
تكون الواو جامعة ، وهي التي تسمَّى : واو المعيَّة ، ولفظ الجمع قبلها
يقتضي ذلك ، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه :﴿ وَجُمِعَ بين الشَّمْس
وَالْقَمَر ﴾ .
وقيل في المراد من جمعهما : أن الله تعالى يجمع
بينهما يوم القيامة ، ويلقيهما في النار ؛ ليكونا عذابًا على الكفار .
وجمعُ الشمس والقمر هو عبارة عن فناء الكون . أي : يحدث وقت التحام الشمس
والقمر . في ذلك الوقت يحدث اضطراب بين النجوم والكواكب ، وتوابعها ،
فتصطدم ببعضها ، وتتحطم ، ثم تتناثر . ويؤكِّد العلماء أن جمع الشمس والقمر
سوف يكون بفعل فقدان تعادل القوى الجاذبة والطاردة ، وسينجذب القمر الى
مركزه الأصلي ، وهو الشمس .
ذكر الأستاذ عبد الدايم كحيل في مقال له
، نشر في موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، تحت عنوان ( وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) ، أن علماء الفلك يخبرون بنتيجة حساباتهم أن
الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام ، وفي تلك اللحظة
سيكبر حجم الشمس ، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر ، وسيتم اجتماع الشمس
والقمر ! ثم قال :« منذ عام/ 1695 لاحظ العالم هالي Edmund Halley أن دوران
الأرض يتباطأ مع الزمن ، وبعد ذلك وعندما تطورت القياسات الفلكية تمكن
العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجيًّا ، وبمعدل/ 4 / سم كل
عام . وفي ذلك الوقت سيكون القمر أبعد عن الأرض بمعدل/ 40 / بالمائة أكبر
من بعده الحالي . أي : أنه سيكون أقرب إلى الشمس . عند هذه المرحلة سوف
يتحطم القمر ، وينخسف كما تنخسف الأرض أثناء الزلزال .. وبالتالي سيكون
القمر أول من يجتمع مع الشمس ، ويتأثر بحرارتها .. في ذلك الوقت سيكون طول
اليوم على الأرض/ 47 / ضعف اليوم الحالي ، وسيصبح طول الشهر/ 47 / يومًا .
ويؤكد
العلماء أن القمر ما هو إلا جزء من الأرض نتج عن اصطدامات ، تعرضت لها
الأرض قبل/ 4.5 / بليون سنة ، فتناثرت أجزاء من الأرض ، وبدأت تدور حولها ،
ثم تجمعت وشكلت القمر . والقمر يبعد عن الأرض/ 385 / ألف كيلو متر وسطيًّا
. هذه المسافة قطعها القمر بعد رحلة شاقة ، استمرت آلاف الملايين من
السنوات ، ولا يزال القمر يبتعد عن الأرض حتى يدخل في نطاق جاذبية الشمس ،
ويكون الاجتماع بينهما . ويؤكد العلماء أن اقتراب الشمس من القمر ، واقتراب
القمر من الشمس ، واجتماعهما حقيقة مؤكدة بناء على القوانين التي تحكم
الكون » .
فالله القادر على جمع الشمس والقمر في هذا اليوم هو على
جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر ، وإن كان الكل
أمام القدرة الإلهية سواء !
ج- وأما التكرار في الآيتين الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين :
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾ * ﴿ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾(القيامة: 34- 35)
فقد
جاء فيهما لفظ ﴿أَوْلَى ﴾ مكررًا أربع مرات . والغرض من هذا التكرار
المبالغة في التهديد والوعيد . والخطاب لأبي جهل ، عمرو بن هشام الذي تقدم
وصفه في الآيات التي سبقت هاتين الآيتين ، وهي قوله تعالى :
﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴾(القيامة: 31- 33)
وكان
يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسمع منه القرآن ، ثم
يذهب عنه ، فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى ، وكان يؤذي رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالقول ، ويصد عن سبيل الله ، ثم يذهب مختالاً بما فعل ،
فخورًا بما ارتكب من الشر ؛ كأنما فعل شيئًا يذكر .
والتعبير
القرآني يتهكم به ، ويسخر منه ، ويثير السخرية كذلك ، وهو يصور حركة
اختياله بأنه ﴿ يَتَمَطَّى ﴾ ، وهو ذاهب إلى أهله . أي : يمطُّ في ظهره ،
ويتعاجب تعاجبًا ثقيلاً كريهًا ! والله جل وعلا يواجه هذه الخيلاء الشريرة
بالتهديد والوعيد ، فيقول سبحانه :
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾
وهو
تعبير اصطلاحي ، يتضمن التهديد والوعيد . ومعناه : قاربك ما تكره ، فاحذره
. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ ، وهو القرب . وفي زاد المسير لابن الجوزيِّ :«
قال ابن قتيبة : هو تهديد ووعيد . وقال الزجاج : العرب تقول : أولى لفلان ،
إذا دعت عليه بالمكروه ، ومعناه : وَلِيَكَ المكروه ، يا أبا جهل ! » .
وقال
الكرماني في كتابه أسرار التكرار :« فإن قوله :﴿ أَوْلَى ﴾ تامٌّ في
الذمِّ ، بدليل قوله :﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾(محمد: 20) ، فإن جمهور المفسرين
ذهبوا إلى أنه للتهديد . وإنما كرَّرها ؛ لأن المعنى : أولى لك الموت ،
فأولى لك العذاب في القبر ، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة ، وأولى لك عذاب
النار ، نعوذ بالله من شرها » .
وفي المستدرك على الصحيحين ، عن
سعيد بن جبير ، قال :« قلت لابن عباس رضي الله عنهما :﴿ أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى ﴾ ، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو شيءٌ أنزله
الله ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أنزله الله » .
وفي
لباب النقول في أسباب النزول لجلال الدين السيوطي :« أخرج الأموي في
مغازيه عن عكرمة ، قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، فقال :
إن الله أمرني أن أقول لك :﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى
لَكَ فَأَوْلَى ﴾ . قال : فنزع ثوبه من يده ، فقال : ما تستطيع لي أنت ،
ولا صاحبك من شئ ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ ، وأنا العزيز الكريم .
فقتله الله يوم بدر وأذله ، وعيَّره بكلمته ، ونزل فيه :﴿ ذُقْ إِنَّكَ
أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾(الدخان: 49) » .
5- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التقديم والتأخير :
ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ . وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى : عاملها .
أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية :
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾(القيامة: 12)
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾(القيامة: 17)
﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 19)
ففي
الآية الأولى قُدِّم الخبر﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾ على المبتدأ ﴿ الْمُسْتَقَرُّ
﴾. والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص ، مع تحسين اللفظ .
والمعنى : أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة ، لا إلى غيره ، فلا
مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه . وقال الزمخشري :« أي : استقرارهم . يعني :
أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره ، وينصِبوا إليه . أو : إلى حكمه ترجع
أمور العباد ، لا يحكم فيها غيره ؛ كقوله :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
﴾(غافر: 16) . أو: إلى ربك مستقرُّهم . أي : موضع قرارهم ، من جنة ، أو نار
» .
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى :
﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾ ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 17- 19)
أي
: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم ،
وإثبات قراءته في لسانه ، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه . فالله سبحانه
تكفل بجمعه ، وقرآنه ، وبيانه . وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين
على مر الدهور والعصور ، الغائصين في مكنوناته ، المتحيرين في أسرار إعجازه
. وهذا يعني : أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر ، ولم يقتصر
على زمن دون زمن .
أما لفظ ( قرآن ) هنا فهو مصدر : قرأ ، جيء به
بدلاً من قراءة ؛ ليدل على المبالغة في القراءة . هذا أصله ، ثم أطلق على
الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فصار علمًا عليه . ومثله في
دلالته على المبالغة فرقان ) ، و( غفران ) ، و( شكران ) ، و( كفران ) .
ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى : عاملها ، فنلاحظه في الآيات الآتية :
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾(القيامة: 12)
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾(القيامة: 14)
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾(القيامة: 22)
﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 23)
﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾(القيامة: 24)
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
ففي
هذه الآيات تقدم الظرف ، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو
العربي مصطلح : العامل . والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص ، وهو الغرض
نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات التي تقدَّم ذكرها قبل هذه
الآيات . وفي قوله تعالى :﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 23) . قال
الزمخشري :« تنظر إلى ربها خاصَّة ، لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم
المفعول » .. واستطرد الزمخشري قائلاً :« ألا ترى إلى قوله :
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾(القيامة: 12)
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
﴿ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ﴾(الشورى: 53)
َ﴿ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ﴾(آل عمران: 28)
﴿َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (البقرة: 28)
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾(هود: 88)
كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! » .
ومصطلح ( المفعول ) يطلق- عند النحاة- ويراد به : شبه الجملة ؛ كما يراد به : المفعول به .
وذكر
الهاشمي في كتابه : جواهر البلاغة ، من فوائد التقديم : ما يفيد زيادة في
المعنى ، مع تحسين في اللفظ ، ثم قال :« وذلك هو الغاية القصوى ، وإليه
المرجع في فنون البلاغة ، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا .. انظر إلى
قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
﴾(القيامة: 22- 23) ، تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص ، وأن
النظر لا يكون إلا لله ، مع جَوْدَة الصياغة ، وتناسق السجَع » .
6- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول ( الواو ) على ( لو ) الشرطية ، في قوله تعالى :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة: 14- 15)
و﴿
بَلِ ﴾ للإضراب الانتقالي ، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة :﴿
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾(القيامة: 13)
، إلى الإخبار بأن الإنسان يعلم ما فعله . فالمعنى : بل الإنسان حجَّة
بيِّنة على نفسه يوم القيامة ، وشاهد عليها وحده بما جنت ، وارتكبت من
الموبقات ، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عنها ؛ وذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ
بذلك :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾(النور: 24) . ولهذا لا يحتاج
إلى غيره ؛ لينبئه بأعماله . ألا ترى إلى قوله :
﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ﴾(الحاقة: 25)
وهو كقوله تعالى :
﴿ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾(الإسراء: 14)
فالبصيرة على هذا هي الحجة البينة الظاهرة ؛ مثلها في قوله تعالى :
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾(يوسف: 108)
والتاء فيها للمبالغة ؛ كما في راوية ) ، و( علاَّمة ) ، و( ونسَّابة ) .
وقيل
: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب ؛ كما أن البصر اسم للإدراك
التام الكامل الحاصل بالعين . وقيل : البصيرة : العقل الذي تظهر به المعاني
والحقائق ؛ كما أنّ البصر إدراك العين الذي تتجلى به الأجسام . وتجمع على
بصائر . قال تعالى :﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ ﴾(104) .
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن الواو
التي في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ هي واو الحال ، وأن ﴿
لَوْ ﴾ بعدها وصليَّة . أي : زائدة . وعليه يكون المعنى : بل الإنسان على
نفسه بصيرة ، ملقيًا معاذيره . وذهب بعضهم إلى القول بأن هذه الواو زائدة ،
وأن ﴿ لَوْ ﴾ بمعنى ( إن ) الشرطية . وعليه يكون المعنى : بل الإنسان على
نفسه بصيرة ، إن ألقى معاذيره .
وكلا القولين مخلٌّ بنظم الكلام ،
ومعناه ؛ لأن المعنى على تقدير الحالية يفيد أن الإنسان بصير على نفسه في
حال إلقائه المعاذير ، وفي غير هذه الحال لا يكون بصيرًا عليها . أما على
التقدير الثاني فيكون المعنى : أن الإنسان بصير على نفسه ، إن ألقى معاذيره
، وإن لم يلقها ، فلا يكون بصيرًا عليها . وكلا المعنيين خلاف المراد من
الآية الكريمة ؛ إذ المراد منها هو : أن الإنسان بصير على نفسه ، رغم
المعاذير التي يأتي بها . وهذا ما أفادته هذه الواو الداخلة على ﴿ لَوْ ﴾ ؛
ولهذا ينبغي أن تسمَّى واو الرَّغم ) .
وتدخل
هذه الواو على عبارة شرطية قيديَّة ، يتقدمها جملة تامة ، غير منسجمة معها
في الدلالة انسجامًا مباشرًا . فإن كانت منسجمة معها في الدلالة ، لم يؤت
بها . تأمل ذلك في قولك :
أعطوا السائل ، ولو كان غنيًّا . وقولك:
أعطوا السائل ، لو كان فقيرًا .
تجد
أن كون السائل غنيًّا لا يناسب أن يعطى ، بخلاف كونه فقيرًا ؛ ولهذا أدخلت
الواو في الأول ، ونزعت منه في الثاني . ولو عكس ذلك ، لاختل اللفظ
والمعنى في كليهما . والشرط في العبارة الأولى يسمَّى شرطًا سلبيًّا ؛ لأن
ما قبله يجري رغم وجود هذا الشرط . ويسمَّى في العبارة الثانية شرطًا
إيجابيًّا ؛ لأن ما قبله يجري بوجود الشرط .
وعلى القول الأول ورد قوله تعالى :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة: 14- 15)
﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾(البقرة: 221)
﴿ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾(يوسف: 17)
وعلى الثاني ورد قوله تعالى :
﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾(التوبة:81)
﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت:64)
﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت:41)
فجيء
بهذه الواو في الموضع الذي ينبغي أن تكون فيه ، ونزعت من الموضع الذي
ينبغي أن تنزع منه ، وهذا من الأسرار الدقيقة التي يتميَّز بها البيان
القرآني .
7- والسر السابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول ( الباء ) على خبر المنفي بـ( ليس ) ، في قوله تعالى :
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)
لما
ذكر الله تعالى في أول السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة
تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه ، ذكر سبحانه في آخرها الأدلة على النشأة
الآخرة بالنشأة الأولى ، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله :
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)
وهذه
الحقيقة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ،
وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا ، هي إحدى الحقائق
الكبيرة التي عرضتها السورة الكريمة ، إلى جانب مشهد يوم القيامة ، وما
يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة وقلق في
مواجهة الأحداث الغالبة ، حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس
، وهي تروغ من هنا ومن هناك ؛ كالفأر في المصيدة ! وذلك ردًّا على تساؤل
الإنسان الكافر عن يوم القيامة ، في شك واستبعاد ليومها المغيَّب ،
واستهانة بها ، ولجاج في الفجور .
وهي- كما قال سيد قطب رحمه الله-
حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها ، وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر
عليها إلا الله ، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة ، ويتمارون فيها . فهي
قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا ، يدبر هذا الأمر ويقدره ؛ كما أنها بيِّنة
، لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة ،
تمشيًّا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته
وعمله بلا وزن ولا حساب .. وهذا هو الإيقاع الذي تمسُّ السورة به القلوب ،
وهي تقول في أولها :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
ثم تقول في آخرها :
﴿
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ
مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ
مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة:36- 40)
وهذا المقطع
الأخير العميق الإيقاع ، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة ، ما كان
المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان . وأولى هذه
اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾
فلقد
كانت الحياة في نظر القوم حركة ، لا علة لها ، ولا هدف ، ولا غاية ..
أرحام تدفع ، وقبور تبلع . وبين هاتين لهو ولعب ، وزينة وتفاخر ، ومتاع
قريب زائل من متاع الحيوان . فأما أن يكون هناك ناموس ، وراءه هدف ، ووراء
الهدف حكمة ، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية
مقدرة ، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء ، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء
ينتهي إلى الحساب والجزاء .. أما هذا التصور الدقيق المتناسق ، والشعور بما
وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة ، تفعل كل شيء بقدر ، وتنهي كل شيء إلى
نهاية .. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم ، في ذلك الزمان .
وهذه
اللمسة :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ هي إحدى لمسات
القرآن التوجيهية للقلب البشري ؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات ،
والأهداف والغايات ،
قال
الله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ
عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ
يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
* يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ
الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ *
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ * كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ
الْآَخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ *
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ
أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ
يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ
عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
﴾( القيامة : 1- 40 )
أولاً- سورة القيامة مكية بلا خلاف ، وآياتها
أربعون ، وهي تعالج موضوع البعث والجزاء الذي هو أحد أركان الإيمان ،
وتركِّز بوجه خاص على القيامة وأهوالها ، والساعة وشدائدها ، وعلى حالة
الإنسان عند الاحتضار ، وما يلقاه الكافر في الآخرة من المصاعب والمتاعب؛
ولذلك سمِّيت : سورة القيامة .
تبدأ السورة الكريمة بالتلويح بالقسم
بيوم القيامة ، وبالنفس اللوَّامة على أن البعث حقٌّ لا ريب فيه . ثم تذكر
طرفًا من ذلك اليوم المهول الذي يتحيَّر فيه البصر ، ويُخْسَف فيه القمر ،
ويُجمَع الخلائق والبشر للحساب والجزاء .
وتتحدَّث السورة الكريمة
عن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بضبط القرآن الكريم ، عند تلاوة
جبريل- عليه السلام- فقد كان عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه في متابعة
جبريل عليه السلام ، ويحرِّك لسانه معه ؛ ليسرع في حفظ ما يتلوه ، فأمره
الله تعالى أن يستمع للتلاوة ، ولا يحرِّك لسانه به .
وتذكر السورة
الكريمة انقسام الناس إلى فريقين : سعداء ، وأشقياء . فالسعداء وجوههم
مضيئة ، تتلألأ بالأنوار ، ينظرون إلى الرب جل وعلا . والأشقياء وجوههم
مظلمة قاتمة ، يعلوها ذلٌّ وقَتَرَة .
ثم تتحدَّث السورة عن حال المرء
عند الاحتضار ، حيث تكون الأهوال والشدائد ، ويلقى الإنسان من الكرب
والضِّيق ما لم يكن في الحسبان . وتختتم بإثبات الحشر والمعاد بالأدلة
والبراهين العقلية .
ثانيًا- هذه السورة الكريمة- كغيرها من سور
القرآن الكريم- حافلة بأسرار البيان المعجز الذي أعجز أرباب الفصاحة
والبيان . وأول ما يطالعنا من هذه الأسرار البديعة المعجزة :
1- سر دخول ﴿ لَا ﴾ النافية على الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ في الآيتين : الأولى والثانية :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)
ويكاد
يجمع العلماء- قديمًا وحديثًا- على القول بأن ﴿ لَا ﴾ هذه زائدة لتوكيد
القسم ، في حين ذهب بعضهم إلى أنها نافية للقسم ، وذهب آخرون إلى أنها
نافية لكلام تقدم ذكره ، ثم ابتدىء بالقسم .. إلى غير ذلك من الأقوال . ومن
العلماء المعاصرين الذين تحدثوا عن الخلاف في ﴿ لَا ﴾ هذه الدكتور فاضل
السامرَّائي ، وهو أشهر من أن يعرَّف به ، ففي كتابه الغنيِّ عن التعريف {
لمسات بيانية في نصوص من التنزيل } تحدث الدكتور فاضل عن لمسات بيانية في
سورة { البلد } ، وقد سأل السؤال الآتي : ما دلالة ( لا ) في القسم ؟ ثم
أجاب بقوله :« أولاً- لم يرد في القرآن كلّه ( أقسم بـ ) أبدًا . كل القسم
في القرآن ورد باستخدام ( لا ) ؛ كقوله تعالى لا أقسم بمواقع النجوم ) ، ( ولا أقسم بالخنّس ) ، ( فلا وربّك لا يؤمنون ) .. وهكذا في القرآن كله .
فما هي ( لا ) ؟ اختلف النحاة في دلالة ( لا ) : كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا ، يقولون
لا ) زائدة لتوكيد القسم بمعنى : أقسم ؛ مثال قولنا : والله لا أفعل ،
معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا
يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة.. وقسم يقولون : هي للنفي . أي : نفي
القسم . والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه ، فلا داعي للقسم .
وقسم قال : إنها تنفي لغرض الاهتمام ؛ كأن تقول : لا أوصيك بفلان ، بمعنى :
لا أحتاج لأن أوصيك .. وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في
كل هذه الأمور ، على أنها توكيد للقسم ، بمعنى : { أقسم بهذا البلد } . إذن
الغرض للتوكيد ؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام » .
هذا ما قاله
فضيلته بنصِّه ، وهو مدوَّن في كتاب ، وليس جوابًا ارتجاليًّا مباشرًا على
الهواء ، وهو كلام يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل ، حتى
يستطيع فهمه ؛ لأنه أشبه بالألغاز ، وإلا فكيف يمكن أن يفهم قوله :« والله
لا أفعل ، معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا
أفعل . لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة » ؟ أو كيف يمكن أن يفهم قوله
:« وفي السورة { لا أقسم بهذا البلد } تدور ( لا ) في كل هذه الأمور ، على
أنها توكيد للقسم ، بمعنى :{ أقسم بهذا البلد } . إذن الغرض للتوكيد ؛ لأن
الأمر فيه عناية واهتمام » ؟ هذا إلى ما فيه من خلط واضح بين نفي القسم ،
ونفي الحاجة إلى القسم . وبين قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ ، وقوله تعالى
:﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ .
وكأن الدكتور فاضل أحس بما
في كلامه من اضطراب وخلط ؛ ولذلك نجده قد رجع عنه في حديثه عن { لمسات
بيانية في سورة القيامة } إلى القول :« وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير
إنما هو لون من ألوان الأساليب في العربية . تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو
ينكره ، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده ؛ لكنك تقول له : لا داعي أن أحلف لك
على هذا . أو لا أريد أن أحلف ؛ لأن الأمر على هذه الحال . ونحوه مستعمل في
الدارجة عندنا نقول : ما أحلف لك أن الأمر كيت وكيت . أو ما أحلف لك بالله
؛ لأن الحلف بالله عظيم إن الأمر على غير ما تظن ، فأنت تخبره بالأمر ،
وتقول له : لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر . أو كما ذهبت إليه
الدكتورة بنت الشاطئ ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد » .
ومثل
هذا الخلط نجده عند ابن عاشور ، يدل على ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى :﴿
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ (الواقعة: 75) ، قال :« و{ لا
أقسم } بمعنى : أقسم ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد . وأصلها : نافية ، تدل على
أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم .
وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم ؛ لأن الأمر واضح الثبوت . ثم كثر هذا
الاستعمال ، فصار مرادًا تأكيد الخبر ، فساوى القسم ، بدليل قوله عقبه :﴿
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾(الواقعة: 76) » .
ثم
قال في سورة البلد :« و { لا أقسم } صيغة تحقيققِ قَسَم ، وأصلها : أنها
امتناع من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث ،
فشاع استعمال ذلك في كل قَسَم يراد تحقيقه ، واعتبر حرف ( لا ) كالمزيد ؛
كما تقدم عند قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ » .
لاحظوا
قوله :« و { لا أقسم } بمعنى : أقسم ، و ( لا ) مزيدة للتوكيد » . ثم
تأملوا قوله :« وأصلها : نافية ، تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما
أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم » . وقوله:« وأصلها : أنها امتناع
من القسَم امتناع تحرُّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث » . وتذكروا
أن المُقسِم- هنا- هو الله عز وجل !
والله جل شأنه عندما يقول :﴿
لَا أُقْسِمُ ﴾ فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط ، وهو أنه تعالى ليس
بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم
عليه حقٌّ ، لا ريب فيه ؛ لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد
حقِّيَّتَه وثبوته ؛ كالبعث والنشور في هذه السورة الكريمة . والفرق واضح
كل الوضوح بين أن نقول :{ أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق } ، وبين أن
نقول :{ لا أقسمُ بيوم القيامة على أن البعث حق } . فالأول يجعل من البعث
أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب ، بخلاف الثاني .
وإذا
علمنا الفرق بين الجملتين السابقتين ، أدركنا سرَّ دخول ﴿ لَا ﴾ النافية
على فعل القسم في هذه السورة ، وفي غيرها من السور التي يكون فيها ضمير
الفعل عائدًا على الله جل وعلا ، ويكون المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة
الثابتة .
ومن هنا يمكننا القول بأن ﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ في القرآن ،
ليس بقسم مباشر ، ولا هو نفي للقسم ، أو نفي لغيره ؛ بل هو تلويح بالقسم ،
وعدول عنه لعدم الحاجة إليه . وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال
سيد قطب رحمه الله- أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر ، وهو أسلوب ، ذو
تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنها ثابتة واضحة .
وهذا هو سر البيان في هذا التركيب القرآني الذي ما زال الناس في تفسيره
يتخبطون !
وأما الفرق بين ﴿ لَا ﴾ في قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ، وفي قوله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ ﴾(النساء: 65) فيبيِّنه أن الأولى موصولة بالقسم ، وأن الثانية
منفصلة عنه ، والدليل على ذلك دخول الواو بينهما .
وأما الفرق بين
نفي القسم ، ونفي الحاجة إلى القسم ، فقد أجابت عنه الدكتورة بنت الشاطىء
بقولها :« وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون ﴿ لَا ﴾ لنفي القسم- كما قال
بعضهم- وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم ؛ كما يهدي إليه البيان القرآني
. ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد ، والتقرير ؛ لأنه يجعل المقام
في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام . والسر البياني لهذا الأسلوب يعتمد في
قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي ، والقسم من مفارقة مثيرة لأقصى
الانتباه ، وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة معها إلى
القسم ، فنقول لمن نثق فيه : لا تقسم . أو : من غير يمين ، مقررين بذلك أنه
موضع ثقتنا ، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا » .
وأما القول بأن { لا
أقسم } بمعنى :{ أقسم } ، بدليل قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾(الواقعة: 76 ) فقد أجاب عنه الأستاذ محمد إسماعيل
عتوك في مقاله ( سر دخول { لا } النافية على فعل القسم ) الموجود على هذا
الرابط :
http://www.bayan7.com/bayan888/modules/xfsection/article.php?articleid=56
وفي جوابه من البيان والتوضيح في تفسير هذا التركيب القرآني ما يكفي .
2- والسر الثاني من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ نفي الفعل ﴿ نَجْمَع ﴾ بـ﴿ لََنْ ﴾ ، وتخيصه بالعظام ، في قوله تعالى :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
لمَّا
عُدِلَ عن القسم المباشر بيوم القيامة والنفس اللوَّامة اكتفاء بالتلويح
به ، عُدِلَ عن ذكر المقسَم عليه ، وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يقال :﴿ لَا
أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ ﴾، ﴿ لَتُبْعَثُنَّ ﴾ ؛ ولكن عُدِلَ عن هذا للعلة السابقة ،
وجيء به في صورة أخرى ؛ كأنها ابتداء لحديث ، بعد التنبيه إليه بهذا المطلع
الذي يوقظ الحس والمشاعر :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
وقد
كانت المشكلة الشعورية عند المشركين هي صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية ،
الذاهبة في التراب ، المتفرقة في الثرى ، لإعادة بعث الإنسان حيًّا ! وهي
مشكلة لا تزال كذلك عالقة في بعض النفوس الضعيفة والمريضة إلى يومنا هذا !
وقد تردد ذكرها في القرآن كثيرًا على ألسنة المشركين ، من ذلك قوله تعالى
حكاية عنهم :
﴿ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآَبَاؤُنَا
الْأَوَّلُونَ ﴾(الواقعة: 47- 48)
والقرآن الكريم يرد عليهم بقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾(الواقعة: 49- 50)
ونحو ذلك قوله تعالى :
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾(يس: 78)
ويأتي الرد من الله تعالى :
﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾(يس: 79)
ومثل ذلك قوله تعالى هنا :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
فجاءت الآية على جهة التوبيخ لهم ، في اعتقادهم أن الله تعالى لا يجمع عظامهم ، فردَّ عليهم تعالى بقوله مؤكدًّا وقوعه :
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾(القيامة: 4)
والمعنى
: أيحسب الإنسان بعد أن خلقناه من عدم أن لن نجمع ما بلى وتفرق من عظامه ؟
بلى ! إننا لقادرون على أن نسوِّيَ أطراف أصابعه الصغيرة ، ونجعلها كما
كانت قبل الموت ، فكيف بالعظام الكبار ؟!
وقد أعاد الله تعالى هذا الاعتراض مع الجواب عليه بصورة أخرى ، في آخر السورة ، فقال سبحانه :
﴿
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ
مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ
مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 36- 40)
والاستفهام في
قوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ﴾ لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ
عليه . والتعريف في ﴿ الْإِنْسَانُ ﴾ تعريف الجنس ، والمراد به هنا جنس
الكافر المنكر للبعث .
و﴿ لََنْ ﴾ في قوله تعالى :﴿ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ أداة لنفي المستقبل ، وهي في مذهب الخليل مركبة من (
لا ) النافية ، و( أن ) المصدرية . ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم
المفعول عليها ؛ لأنه يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط .
ومن
خواصِّها : أنها تنفي الفعل في المستقبل بعد أن كان محتملاً للحال . وبيان
ذلك : أنك إذا قلت : يسرني أن يقوم زيد خطيبًا ، دلت ( أن ) على إمكان
القيام . فإن قلت : لن يقوم ، دلت ( لن ) على نفي إمكان القيام الذي دلت
عليه ( أن ) . فإذا ثبت ذلك ، فمعنى ( لن ) هو نفيُ الإمكان بـ( أن ) .
ومن
خواصِّ ( لن ) أيضًا أنها تنفي ما قرُب ، ولا يمتدُّ معنى النفي فيها
كامتداده في ( لا ) ، إذا قلت : لا يقوم ؛ لأن ( لا ) هي لام بعدها ألف ،
يمتدُّ بها الصوت ما لم يقتطعه تضييق النَّفَس ؛ فآذن امتداد لفظها بامتداد
معناها. و( لن ) بخلاف ذلك ؛ ولهذا كان ظاهر اللفظ والمعنى يقتضي أن يقال
:« أيحسب الإنسان أن لا نجمع عظامه » ، بدلا من قوله تعالى :﴿ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؛ ولكن عدل عن الأول إلى الثاني ؛ لأن العرب- كما قال
الشيخ السهيلي رحمه الله- تنفي بـ( لن ) ما كان ممكنًا عند المخاطب ،
مظنونًا أن سيكون ، فتقول له : لن يكون ، لما يمكن أن يكون ؛ لأن ( لن )
فيها معنى ( أن ) . وإذا كان الأمر عندهم على الشك ، لا على الظن- كأنه
يقول : أيكون ، أم لا يكون- قلت في النفي : لا يكون .
تأمل ذلك في
قوله تعالى :﴿ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ﴾(الحج:
73) ، كيف جاء النفي فيه بـ( لن ) دون ( لا ) ، لظنِّ المشركين أن الآلهة
التي يعبدونها من دون الله جل وعلا ، قادرة على الخلق . فإذا علمت ذلك ،
تبين لك سر النفي بـ( لن ) دون ( لا ) في قوله تعالى :﴿ أَلَّنْ نَجْمَعَ
عِظَامَهُ ﴾ . ولو قيل :﴿ أَنْ لَا نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ، لأفاد ذلك خلاف
المراد .
وأما سرُّ تخصيص فعل الجمع بالعظام فلأن العظام هي قالب
النفس ، لا يستوي الخَلْقُ إلا باستوائها ، وأنها أبعد شيء عن الحياة بعد
البلى . وجمعها بعد البلى لا قدرة لأحد عليه سوى الله الذي خلقها أول مرة ،
سبحانه وتعالى ! قال ابن قيِّم الجوزيَّة :« الذي أحصاه المشرحون من
العظام في البدن مائتان وثماني وأربعون عظمًا ، سوى الصغار السَّمسَميَّات
التي أحكمت بها مفاصل الأصابع ، والتي في الحنجرة . وقد أخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلاً . فإن كانت
المفاصل هي العظام ، فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظامًا صغارًا ،
لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم . وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل
بها الأعضاء بعضها عن بعض- كما قال الجوهري وغيره- فتلك أعم من العظام ..
فتأمله ! » .
3- والسر الثالث من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ
اختيار لفظ البنان ، وتخصيصه بالتسوية في قوله تعالى :﴿ بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾(القيامة: 4) . و﴿ بَلَى ﴾ حرف جواب ،
ولها موضعان :
الموضع الأول : أن تكون ردًّا لنفي يقع قبلها ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(النحل: 28) . أي : بلى ! قد عملتم السوء .
والموضع
الثاني : أن تقع جوابًا لاستفهام دخل عليه نفي حقيقة ، فيصير معناها
التصديق لما قبلها ؛ كقولك : ألم أكن صديقك ؟ ألم أحسن إليك ؟ فتقول : بلى !
أي : كنت صديقي . ومنه قوله تعالى :
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾
؟ ﴿ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا ﴾(الملك: 8- 9) ،
فهي في هذا الموضع تصديق لما قبلها ، وفي الأول ردُّ لما قبلها ، وتكذيب .
ويجوز أن يقرن النفي بالاستفهام مطلقًا ، حقيقيًّا كان ، أو مجازيًّا ؛ فالمجازي كقوله تعالى :
﴿
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ ؟ ﴿ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ﴾(الأعراف: 172) .
أي : بلى ! أنت ربنا . فإن الاستفهام هنا ليس على حقيقته ؛ بل هو للتقرير ؛
لكنهم أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده بـ﴿ بَلَى ﴾ . قال
ابن عباس رضي الله عنهما :« لو قالوا : نعم ، لكفروا » . ووجهه أن لفظة (
نعم ) تصديق لما بعد الهمزة ، نفيًا كان ، أو إثباتًا . والحقيقي كقوله
تعالى :
﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ﴾ ؟ ﴿ بَلَى ﴾(الزخرف: 80)
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾ ؟ ﴿ بَلَى قَادِرِينَ ﴾(القيامة: 3- 4)
ومن
ثمَّ قال الجمهور : التقدير : بلى ! نجمعها قادرين ؛ لأن الحسبان إنما يقع
من الإنسان على نفي جمع العظام ، و﴿ بَلَى ﴾ إثبات فعل النفي ، فينبغي أن
يكون فعل الجمع بعدها مذكورًا على سبيل الإيجاب .
وقوله تعالى :﴿
قَادِرِينَ ﴾ حال مقيِّد لفعل الجمع المقدَّر . وفيه بعد الدلالة على
التقييد ، تأكيد لمعنى الجمع ؛ لأن الجمع من الأفعال التي لابدَّ فيها من
القدرة ، فإذا قُيِّد بالقدرة البالغة ، فقد أُكِّدَ .
والبنان في
قوله تعالى :﴿ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ يطلق في اللغة ، ويراد به :
الأصابع ، وأطرافها . وقيل : سمِّيت الأصابع بذلك ؛ لأن بها صلاح الأحوال
التى يمكن للإنسان أن يَبْني بها . قال تعالى :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ
كُلَّ بَنَانٍ ﴾(الأنفال: 12) . أي : الأصابع ، أو أطرافها ؛ لأجل أنهم بها
يقاتلون ، فإنه لا ظهور على العدوِّ إلا بضرب بنانه .
والمراد بها
في قوله تعالى :﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ
﴾(القيامة: 4) أطراف الأصابع . وهذه الآية الكريمة من أقوى الأدلة على جمع
أجزاء الإنسان المتفرقة ، وأبلغ دليل في تصوير القدرة الإلهية على ذلك ؛ إذ
تؤكد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهو تسوية البنان ،
وتركيبه في موضعه كما كان ، وهي كناية عن إعادة التكوين الإنساني بأدق ما
فيه ، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان ، ولا تختل عن مكانها ؛ بل تُسوَّى
تسويةً كاملة ، مهما صغُرت ودقَّت ! وبهذا يُعلَم سرُّ تخصيص لفظ ( البنان )
بالذكر- ههنا- دون غيره .
وقد كشفت العلوم الحديثة عن هذا السر ؛
إذ تبين أن البشرية بأسرها ، قد ميَّز الله العليم القادر بين جميع أفرادها
بميزة ، لا يمكن أن يشترك فيها اثنان منهم ، حتى الأب مع ابنه .. تلك
الميزة هي اختلاف البنان ، تلك الخطوط الدقيقة في أنامل كل إنسان . فثبت
بذلك أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته ، وأن بصمات الأصابع هي الوسيلة
الوحيدة لتحقيق هذه الشخصية ، ونشأ عن ذلك علم ، سمِّي :« علم تحقيق
الشخصيَّة » .
فإذا كان الأمر كذلك ، وقد أخبر تعالى أنه قادر على
جمع عظام الإنسان وإعادة بنان كل فرد بهيئته وشكله وصورته ، فكيف يستبعد
الجاحد على من هذه قدرته ، إعادته إلى الحياة مرة أخرى ؟ وبالتالي فالآية
نصٌّ صريحٌ في جمع الأجزاء المتفرقة ، حتى أصغر وأدق جزء منها ، ودليلٌ على
أن بدن الإنسان يتفرق ، ولا ينعدم .
وهكذا نرى أن قوله تعالى :﴿
أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ يدل على معنى لم يكشف العلم سره ، إلا بعد نزول
القرآن بأكثر من ألف وأربعمائة سنة ، حينما عرف أن لكل بنان بصمة خاصة ،
تختلف فيها اتجاهات خطوطها اختلافًا واضحًا بين فرد وآخر . وصدق رب العزة
حين قال :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾(فصلت: 53)
4- والسر الرابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التكرار :
ومن
ذلك ما جاء فيها من تكرار في الآيتين : الأولى والثانية . وفي الآيتين :
الثامنة والتاسعة . وفي الآيتين : الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين .
أ- أما التكرار في الآيتين الأولى والثانية :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ * ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2)
ففيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الله تعالى أقسم بيوم القيامة ، وبالنفس اللوَّامة .
والثاني : أنه أقسم بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوَّامة .
والثالث : أنه لم يقسم بهما .
وقد
سبق أن ذكرت أن قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ ليس بقسم مباشر ؛ بل هو
تلويح بالقسم وعدول عنه ، لعدم الحاجة إليه . وأن ﴿ لَا ﴾ جيء بها قبل
الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ ، لنفي الحاجة إلى القسم ، ولم يؤتَ بها لغرض آخر .
وهذا هو سرُّ البيان فيها . وأما تكرارها مع الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ ففيه سرٌّ
آخرُ من أسرار البيان ، وبيان ذلك أنه لو قيل :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ ، احتمل ذلك معنيين :
أحدهما : نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين .
والثاني : نفي الحاجة إلى القسم بأحدهما ، دون الآخر .
وأما قوله تعالى :
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾
فيدل
على نفي الحاجة إلى القسم بهما مجتمعين ومنفردين . وهذا يعني أن التكرار
هنا مقصود ، ويدلك على ذلك أن السورة الكريمة تقوم من مطلعها إلى ختامها
على المزاوجة بين إيقاع يوم القيامة ، وإيقاع النفس اللوَّامة ؛ وكأن هذا
المطلع إشارة إلى موضوع السورة . أو كأنه اللازمة الإيقاعية التي ترتد
إليها كل إيقاعات السورة بطريقة دقيقة جميلة .
أما يوم القيامة فقد
ورد وصفه في هذه السورة وفي غيرها بما لم يوصف به غيره ، وسيمر بنا شيء من
هذا الوصف .. وأما النفس اللوَّامة فقد روي في تفسيرها أقوال متنوعة ، كلها
متقاربة المعنى ، ولعل أقربها إلى المراد ما روي عن الحسن البصري من قوله
:« إن المؤمن ، والله ! ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت
بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدمًا ، ما يعاتب نفسه » .
وعنه أيضًا :« ليس أحد من أهل السماوات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة
» .
يقول سيد قطب رحمه الله :« فهذه النفس اللوَّامة ، المتيقظة
التقية ، الخائفة المتوجِّسة التي تحاسب نفسها ، وتتلفت حولها ، وتتبين
حقيقة هواها ، وتحذر خداع ذاتها ، هي النفس الكريمة على الله ، حتى ليذكرها
مع يوم القيامة . ثم هي الصورة المقابلة للنفس الفاجرة ، نفس الإنسان الذي
يريد أن يفجر أمام خالقه ، فيسأل سؤال المتهكم عن يوم القيامة ، مستبعًدا
وقوعه ، ويمضي قدمًا في فجوره وغيِّه دون حساب لنفسه ، ودون تلوُّم ، ولا
تحرُّج ، ولا مبالاة ! » .
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ﴾(القيامة: 5- 6)
والسؤال
بـ﴿ أَيَّانَ ﴾ هذا اللفظ المديد الجرس ، يوحي باستبعاد ذلك السائل لهذا
اليوم الواقع لا محالة ؛ وذلك تمشيًا مع رغبته في أن يفجر ، ويمضي في فجوره
، لا يصدُّه شبح البعث ، وشبح الآخرة . والآخرة لجام للنفس الراغبة في
الشر ، ومَصَدٌّ للقلب المحب للفجور ، فهو يحاول إزالة هذا المَصَدِّ ،
وإزاحة هذا اللجام ؛ لينطلق في الشر والفجور بلا حساب ليوم الحساب . ومن
ثمَّ كان الجواب على تهكمه بيوم القيامة ، واستبعاده لموعده سريعًا خاطفًا
حاسمًا ، ليس فيه تريث ، ولا إبطاء ، حتى في إيقاع النظم ، وجرس الألفاظ .
﴿
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا
لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ
الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ
عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة: 7- 15)
ب- وأما التكرار في الآيتين الثامنة والتاسعة :
﴿ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ﴾ * ﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾(القيامة: 8- 9)
فالمراد
به تكرار لفظ ( القمر ) . والسر في هذا التكرار أن الله تعالى أخبر عنه في
الآية الثانية بغير الخبر في الأولى . فخَسْفُ القمر غير جمعه مع الشمس .
وخسفه معناه : ذهاب ضوئه وإظلامه . قال أبو حاتم محمد بن إدريس :« إذا ذهب
بعضه فهو كسوف ، وإذا ذهب كله فهو الخسوف » .
وغلِّب المذكر على المؤنث في الآية الثانية ، لاجتماع الشمس والقمر . ولو قيل
طلع الشمس والقمر ) ، بدلاً من قوله تعالى :﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ ﴾، لقبح ؛ كما يقبح أن يقال : قام هند وزيد ؛ إلا أن يراد
بالواو : الواو الجامعة ، لا العاطفة . وأما في الآية الكريمة فلا بد أن
تكون الواو جامعة ، وهي التي تسمَّى : واو المعيَّة ، ولفظ الجمع قبلها
يقتضي ذلك ، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه :﴿ وَجُمِعَ بين الشَّمْس
وَالْقَمَر ﴾ .
وقيل في المراد من جمعهما : أن الله تعالى يجمع
بينهما يوم القيامة ، ويلقيهما في النار ؛ ليكونا عذابًا على الكفار .
وجمعُ الشمس والقمر هو عبارة عن فناء الكون . أي : يحدث وقت التحام الشمس
والقمر . في ذلك الوقت يحدث اضطراب بين النجوم والكواكب ، وتوابعها ،
فتصطدم ببعضها ، وتتحطم ، ثم تتناثر . ويؤكِّد العلماء أن جمع الشمس والقمر
سوف يكون بفعل فقدان تعادل القوى الجاذبة والطاردة ، وسينجذب القمر الى
مركزه الأصلي ، وهو الشمس .
ذكر الأستاذ عبد الدايم كحيل في مقال له
، نشر في موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، تحت عنوان ( وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) ، أن علماء الفلك يخبرون بنتيجة حساباتهم أن
الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر بعد خمسة آلاف مليون عام ، وفي تلك اللحظة
سيكبر حجم الشمس ، حتى يصل غلافها إلى حدود القمر ، وسيتم اجتماع الشمس
والقمر ! ثم قال :« منذ عام/ 1695 لاحظ العالم هالي Edmund Halley أن دوران
الأرض يتباطأ مع الزمن ، وبعد ذلك وعندما تطورت القياسات الفلكية تمكن
العلماء من اكتشاف أن القمر يبتعد عن الأرض تدريجيًّا ، وبمعدل/ 4 / سم كل
عام . وفي ذلك الوقت سيكون القمر أبعد عن الأرض بمعدل/ 40 / بالمائة أكبر
من بعده الحالي . أي : أنه سيكون أقرب إلى الشمس . عند هذه المرحلة سوف
يتحطم القمر ، وينخسف كما تنخسف الأرض أثناء الزلزال .. وبالتالي سيكون
القمر أول من يجتمع مع الشمس ، ويتأثر بحرارتها .. في ذلك الوقت سيكون طول
اليوم على الأرض/ 47 / ضعف اليوم الحالي ، وسيصبح طول الشهر/ 47 / يومًا .
ويؤكد
العلماء أن القمر ما هو إلا جزء من الأرض نتج عن اصطدامات ، تعرضت لها
الأرض قبل/ 4.5 / بليون سنة ، فتناثرت أجزاء من الأرض ، وبدأت تدور حولها ،
ثم تجمعت وشكلت القمر . والقمر يبعد عن الأرض/ 385 / ألف كيلو متر وسطيًّا
. هذه المسافة قطعها القمر بعد رحلة شاقة ، استمرت آلاف الملايين من
السنوات ، ولا يزال القمر يبتعد عن الأرض حتى يدخل في نطاق جاذبية الشمس ،
ويكون الاجتماع بينهما . ويؤكد العلماء أن اقتراب الشمس من القمر ، واقتراب
القمر من الشمس ، واجتماعهما حقيقة مؤكدة بناء على القوانين التي تحكم
الكون » .
فالله القادر على جمع الشمس والقمر في هذا اليوم هو على
جمع عظام الإنسان بعدما فرَّقها البلى ومزَّقها أقدر وأقدر ، وإن كان الكل
أمام القدرة الإلهية سواء !
ج- وأما التكرار في الآيتين الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين :
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾ * ﴿ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾(القيامة: 34- 35)
فقد
جاء فيهما لفظ ﴿أَوْلَى ﴾ مكررًا أربع مرات . والغرض من هذا التكرار
المبالغة في التهديد والوعيد . والخطاب لأبي جهل ، عمرو بن هشام الذي تقدم
وصفه في الآيات التي سبقت هاتين الآيتين ، وهي قوله تعالى :
﴿ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ﴾(القيامة: 31- 33)
وكان
يجيء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسمع منه القرآن ، ثم
يذهب عنه ، فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدب ولا يخشى ، وكان يؤذي رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالقول ، ويصد عن سبيل الله ، ثم يذهب مختالاً بما فعل ،
فخورًا بما ارتكب من الشر ؛ كأنما فعل شيئًا يذكر .
والتعبير
القرآني يتهكم به ، ويسخر منه ، ويثير السخرية كذلك ، وهو يصور حركة
اختياله بأنه ﴿ يَتَمَطَّى ﴾ ، وهو ذاهب إلى أهله . أي : يمطُّ في ظهره ،
ويتعاجب تعاجبًا ثقيلاً كريهًا ! والله جل وعلا يواجه هذه الخيلاء الشريرة
بالتهديد والوعيد ، فيقول سبحانه :
﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ﴾
وهو
تعبير اصطلاحي ، يتضمن التهديد والوعيد . ومعناه : قاربك ما تكره ، فاحذره
. وهو مأخوذٌ من الوَلِيِّ ، وهو القرب . وفي زاد المسير لابن الجوزيِّ :«
قال ابن قتيبة : هو تهديد ووعيد . وقال الزجاج : العرب تقول : أولى لفلان ،
إذا دعت عليه بالمكروه ، ومعناه : وَلِيَكَ المكروه ، يا أبا جهل ! » .
وقال
الكرماني في كتابه أسرار التكرار :« فإن قوله :﴿ أَوْلَى ﴾ تامٌّ في
الذمِّ ، بدليل قوله :﴿ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾(محمد: 20) ، فإن جمهور المفسرين
ذهبوا إلى أنه للتهديد . وإنما كرَّرها ؛ لأن المعنى : أولى لك الموت ،
فأولى لك العذاب في القبر ، ثم أولى لك أهوال يوم القيامة ، وأولى لك عذاب
النار ، نعوذ بالله من شرها » .
وفي المستدرك على الصحيحين ، عن
سعيد بن جبير ، قال :« قلت لابن عباس رضي الله عنهما :﴿ أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى ﴾ ، أشيءٌ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو شيءٌ أنزله
الله ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أنزله الله » .
وفي
لباب النقول في أسباب النزول لجلال الدين السيوطي :« أخرج الأموي في
مغازيه عن عكرمة ، قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، فقال :
إن الله أمرني أن أقول لك :﴿ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى
لَكَ فَأَوْلَى ﴾ . قال : فنزع ثوبه من يده ، فقال : ما تستطيع لي أنت ،
ولا صاحبك من شئ ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاءَ ، وأنا العزيز الكريم .
فقتله الله يوم بدر وأذله ، وعيَّره بكلمته ، ونزل فيه :﴿ ذُقْ إِنَّكَ
أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾(الدخان: 49) » .
5- والسر الخامس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ التقديم والتأخير :
ومن ذلك سر تقديم الخبر على المبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ . وتقديم شبه الجملة على ما يسمَّى : عاملها .
أ- أما تقديم الخبر على المبتدأ ، أو ما أصله المبتدأ فنلاحظه في الآيات الآتية :
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾(القيامة: 12)
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾(القيامة: 17)
﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 19)
ففي
الآية الأولى قُدِّم الخبر﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾ على المبتدأ ﴿ الْمُسْتَقَرُّ
﴾. والسر في هذا التقديم هو إفادة معنى التخصيص ، مع تحسين اللفظ .
والمعنى : أن مستقر العباد يوم القيامة إلى ربهم خاصة ، لا إلى غيره ، فلا
مفرَّ لهم منه سبحانه إلا إليه . وقال الزمخشري :« أي : استقرارهم . يعني :
أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره ، وينصِبوا إليه . أو : إلى حكمه ترجع
أمور العباد ، لا يحكم فيها غيره ؛ كقوله :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
﴾(غافر: 16) . أو: إلى ربك مستقرُّهم . أي : موضع قرارهم ، من جنة ، أو نار
» .
وما قيل في تقديم الخبر على المبتدأ يقال مثله في تقديمه على ما أصله المبتدأ في قوله تعالى :
﴿ إِِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ﴾ ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾(القيامة: 17- 19)
أي
: إن على الله تعالى وحده جمع القرآن في صدر محمد صلى الله عليه وسلم ،
وإثبات قراءته في لسانه ، ثم إن عليه وحده سبحانه بيانه . فالله سبحانه
تكفل بجمعه ، وقرآنه ، وبيانه . وبيانه يكون على ألسنة العلماء المتدبرين
على مر الدهور والعصور ، الغائصين في مكنوناته ، المتحيرين في أسرار إعجازه
. وهذا يعني : أن بيان القرآن الكريم لم ينفرد به شخص دون آخر ، ولم يقتصر
على زمن دون زمن .
أما لفظ ( قرآن ) هنا فهو مصدر : قرأ ، جيء به
بدلاً من قراءة ؛ ليدل على المبالغة في القراءة . هذا أصله ، ثم أطلق على
الكتاب المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فصار علمًا عليه . ومثله في
دلالته على المبالغة فرقان ) ، و( غفران ) ، و( شكران ) ، و( كفران ) .
ب- وأما تقديم شبه الجملة على ما يسمَّى : عاملها ، فنلاحظه في الآيات الآتية :
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾(القيامة: 12)
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾(القيامة: 14)
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ﴾(القيامة: 22)
﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 23)
﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ﴾(القيامة: 24)
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
ففي
هذه الآيات تقدم الظرف ، والجارُّ والمجرور على ما يطلق عليه في النحو
العربي مصطلح : العامل . والغرض من هذا التقديم هو الاختصاص ، وهو الغرض
نفسه من تقديم الخبر على المبتدأ في الآيات التي تقدَّم ذكرها قبل هذه
الآيات . وفي قوله تعالى :﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة: 23) . قال
الزمخشري :« تنظر إلى ربها خاصَّة ، لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم
المفعول » .. واستطرد الزمخشري قائلاً :« ألا ترى إلى قوله :
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾(القيامة: 12)
﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾(القيامة: 30)
﴿ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ﴾(الشورى: 53)
َ﴿ إِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ﴾(آل عمران: 28)
﴿َ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ (البقرة: 28)
﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾(هود: 88)
كيف دلَّ فيها التقديم على الاختصاص ! » .
ومصطلح ( المفعول ) يطلق- عند النحاة- ويراد به : شبه الجملة ؛ كما يراد به : المفعول به .
وذكر
الهاشمي في كتابه : جواهر البلاغة ، من فوائد التقديم : ما يفيد زيادة في
المعنى ، مع تحسين في اللفظ ، ثم قال :« وذلك هو الغاية القصوى ، وإليه
المرجع في فنون البلاغة ، والكتاب الكريم هو العمدة في هذا .. انظر إلى
قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ
﴾(القيامة: 22- 23) ، تجد أن تقديم الجارِّ في هذا قد أفاد التخصيص ، وأن
النظر لا يكون إلا لله ، مع جَوْدَة الصياغة ، وتناسق السجَع » .
6- والسر السادس من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول ( الواو ) على ( لو ) الشرطية ، في قوله تعالى :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة: 14- 15)
و﴿
بَلِ ﴾ للإضراب الانتقالي ، وهو للترقي من مضمون الجملة السابقة :﴿
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾(القيامة: 13)
، إلى الإخبار بأن الإنسان يعلم ما فعله . فالمعنى : بل الإنسان حجَّة
بيِّنة على نفسه يوم القيامة ، وشاهد عليها وحده بما جنت ، وارتكبت من
الموبقات ، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عنها ؛ وذلك لأن جوارحه تنطق يومئذ
بذلك :﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾(النور: 24) . ولهذا لا يحتاج
إلى غيره ؛ لينبئه بأعماله . ألا ترى إلى قوله :
﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ ﴾(الحاقة: 25)
وهو كقوله تعالى :
﴿ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾(الإسراء: 14)
فالبصيرة على هذا هي الحجة البينة الظاهرة ؛ مثلها في قوله تعالى :
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾(يوسف: 108)
والتاء فيها للمبالغة ؛ كما في راوية ) ، و( علاَّمة ) ، و( ونسَّابة ) .
وقيل
: البصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب ؛ كما أن البصر اسم للإدراك
التام الكامل الحاصل بالعين . وقيل : البصيرة : العقل الذي تظهر به المعاني
والحقائق ؛ كما أنّ البصر إدراك العين الذي تتجلى به الأجسام . وتجمع على
بصائر . قال تعالى :﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ
بِحَفِيظٍ ﴾(104) .
وجمهور النحاة والمفسرين على القول بأن الواو
التي في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ هي واو الحال ، وأن ﴿
لَوْ ﴾ بعدها وصليَّة . أي : زائدة . وعليه يكون المعنى : بل الإنسان على
نفسه بصيرة ، ملقيًا معاذيره . وذهب بعضهم إلى القول بأن هذه الواو زائدة ،
وأن ﴿ لَوْ ﴾ بمعنى ( إن ) الشرطية . وعليه يكون المعنى : بل الإنسان على
نفسه بصيرة ، إن ألقى معاذيره .
وكلا القولين مخلٌّ بنظم الكلام ،
ومعناه ؛ لأن المعنى على تقدير الحالية يفيد أن الإنسان بصير على نفسه في
حال إلقائه المعاذير ، وفي غير هذه الحال لا يكون بصيرًا عليها . أما على
التقدير الثاني فيكون المعنى : أن الإنسان بصير على نفسه ، إن ألقى معاذيره
، وإن لم يلقها ، فلا يكون بصيرًا عليها . وكلا المعنيين خلاف المراد من
الآية الكريمة ؛ إذ المراد منها هو : أن الإنسان بصير على نفسه ، رغم
المعاذير التي يأتي بها . وهذا ما أفادته هذه الواو الداخلة على ﴿ لَوْ ﴾ ؛
ولهذا ينبغي أن تسمَّى واو الرَّغم ) .
وتدخل
هذه الواو على عبارة شرطية قيديَّة ، يتقدمها جملة تامة ، غير منسجمة معها
في الدلالة انسجامًا مباشرًا . فإن كانت منسجمة معها في الدلالة ، لم يؤت
بها . تأمل ذلك في قولك :
أعطوا السائل ، ولو كان غنيًّا . وقولك:
أعطوا السائل ، لو كان فقيرًا .
تجد
أن كون السائل غنيًّا لا يناسب أن يعطى ، بخلاف كونه فقيرًا ؛ ولهذا أدخلت
الواو في الأول ، ونزعت منه في الثاني . ولو عكس ذلك ، لاختل اللفظ
والمعنى في كليهما . والشرط في العبارة الأولى يسمَّى شرطًا سلبيًّا ؛ لأن
ما قبله يجري رغم وجود هذا الشرط . ويسمَّى في العبارة الثانية شرطًا
إيجابيًّا ؛ لأن ما قبله يجري بوجود الشرط .
وعلى القول الأول ورد قوله تعالى :
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة: 14- 15)
﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾(البقرة: 221)
﴿ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾(يوسف: 17)
وعلى الثاني ورد قوله تعالى :
﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾(التوبة:81)
﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت:64)
﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت:41)
فجيء
بهذه الواو في الموضع الذي ينبغي أن تكون فيه ، ونزعت من الموضع الذي
ينبغي أن تنزع منه ، وهذا من الأسرار الدقيقة التي يتميَّز بها البيان
القرآني .
7- والسر السابع من أسرار هذه السورة الكريمة سرُّ دخول ( الباء ) على خبر المنفي بـ( ليس ) ، في قوله تعالى :
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)
لما
ذكر الله تعالى في أول السورة الكريمة إمكان البعث والنشور في صورة
تقريرية حاسمة ردًّا على منكريه ، ذكر سبحانه في آخرها الأدلة على النشأة
الآخرة بالنشأة الأولى ، ثم ختم سبحانه السورة الكريمة بقوله :
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة: 40)
وهذه
الحقيقة ، حقيقة النشأة الأولى ، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى ،
وعلى أن هناك تدبيرًا في خلق هذا الإنسان وتقديرًا ، هي إحدى الحقائق
الكبيرة التي عرضتها السورة الكريمة ، إلى جانب مشهد يوم القيامة ، وما
يجري فيه من انقلابات كونية ، ومن اضطرابات نفسية ، ومن حيرة وقلق في
مواجهة الأحداث الغالبة ، حيث يتجلى الهول في صميم الكون ، وفي أغوار النفس
، وهي تروغ من هنا ومن هناك ؛ كالفأر في المصيدة ! وذلك ردًّا على تساؤل
الإنسان الكافر عن يوم القيامة ، في شك واستبعاد ليومها المغيَّب ،
واستهانة بها ، ولجاج في الفجور .
وهي- كما قال سيد قطب رحمه الله-
حقيقة يكشف الله للناس عن دقة أدوارها ، وتتابعها في صنعة مبدعة ، لا يقدر
عليها إلا الله ، ولا يدعها أحد ممن يكذبون بالآخرة ، ويتمارون فيها . فهي
قاطعة في أن هناك إلهًا واحدًا ، يدبر هذا الأمر ويقدره ؛ كما أنها بيِّنة
، لا ترد على يسر النشأة الآخرة ، وإيحاء قوي بضرورة النشأة الآخرة ،
تمشيًّا مع التقدير والتدبير الذي لا يترك هذا الإنسان سدى ، ولا يدع حياته
وعمله بلا وزن ولا حساب .. وهذا هو الإيقاع الذي تمسُّ السورة به القلوب ،
وهي تقول في أولها :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3)
ثم تقول في آخرها :
﴿
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ
مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ
مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة:36- 40)
وهذا المقطع
الأخير العميق الإيقاع ، يشتمل على لفتات عميقة إلى حقائق كبيرة ، ما كان
المخاطبون بهذا القرآن يخطرونها على بالهم في ذلك الزمان . وأولى هذه
اللفتات تلك اللفتة إلى التقدير والتدبير في حياة الإنسان :
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾
فلقد
كانت الحياة في نظر القوم حركة ، لا علة لها ، ولا هدف ، ولا غاية ..
أرحام تدفع ، وقبور تبلع . وبين هاتين لهو ولعب ، وزينة وتفاخر ، ومتاع
قريب زائل من متاع الحيوان . فأما أن يكون هناك ناموس ، وراءه هدف ، ووراء
الهدف حكمة ، وأن يكون قدوم الإنسان إلى هذه الحياة وفق قدر يجري إلى غاية
مقدرة ، وأن ينتهي إلى حساب وجزاء ، وأن تكون رحلته على هذه الأرض ابتلاء
ينتهي إلى الحساب والجزاء .. أما هذا التصور الدقيق المتناسق ، والشعور بما
وراءه من ألوهية قادرة مدبرة حكيمة ، تفعل كل شيء بقدر ، وتنهي كل شيء إلى
نهاية .. أما هذا فكان أبعد شيء عن تصور الناس ومداركهم ، في ذلك الزمان .
وهذه
اللمسة :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ هي إحدى لمسات
القرآن التوجيهية للقلب البشري ؛ كي يتلفت ويستحضر الروابط والصلات ،
والأهداف والغايات ،