التعفف النفسي عند المسلم يأبى عليه أن يأخذ قرضا إلا من الل
أخ كريم من طلابي والده اختلف مع أعمامه، والخلاف شديد جداً، فتوصلوا إلى أنه لعلي أنْ أصلح بينهم، فالتقينا في سهرة طويلة إلى الساعة الواحدة، أول سهرة ، والثانية، والثالثة، تجارة، وخلافات، وأسعار اختلفت، وأخ مقصر، وخسارة كبيرة، وانتشر العداء والتقاطع، فالله عز وجل خلال سهرات عديدة وفقني أن أصلح بينهم وتعود الأمور إلى مجاريها، رغم بُعدِهم عن مجالس العلم، بعد ما انتهت الأمور، قال لي أحدُهم: كم تريد أستاذ ؟ يمكن في حياتي ما شعرت بإهانة كذاك اليوم، ما هذا ؟ لستُ محاميًا، ولا قاضيًا أساساً، أنا شيخ، أنا فعلت هذا ابتغاء وجه الله .
فإذا تعلقتَ بالآخرة لم تطلب الأجر من الناس، تشعر أنك غني إذا لم تأخذ شيئًا، مئات الأخوة لا يرضون أن أتحدَّث عن عملهم، وحينما أتكلم عنه مادحاً يتألم أشد الألم، كأنني فضحته، ويرجو أنّ هذه بينه وبين الله، هذا هو الإخلاص.
هناك أشخاص يبذلون الغالي والرخيص بلسان صامتٍ، من دون ضجيج، فكلما كان إيمانُ الإنسان بالآخرة عاليًا لم تهمه سمعته إطلاقاً، ولا يريد ثناء ولا شكورًا، ولا مديحًا، ولا أن تنوِّه بفضله، حسبه رضاء الله عنه، قال له: والله يا معاذ إني لأحبك.
أخواننا الكرام إذا آمنا بالآخرة إيمانًا حقيقيًا، تجد نفسك تبذل بشكل عجيب دون أن ترجو ثناء ولا شكوراً، ولا إشادة ولا توقيراً ولا تعظيماً، وليس لك طمع في شيء .
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾
( سورة الإنسان الآية: 9)
المثل الأعلى للمسلم في تطهير بيت الله هو سيدنا إبراهيم عله الصلاة والسلام:
مرة زارني أخ من مصر، يبدو أنه في أثناء الخطبة اضطر أن يدخل إلى دورات المياه، بعد ما انتهت الخطبة، قال لي: شيء لا يصدق، فما هذا الشيء ؟ قال لي: هل من المعقول أن تكون دورات مياه المسجد أنظف من بيت ؟ قلت: هما أخوان كريمان متفوقان في حياتهما يأتيان فيما بينهما وبين الله وينظفان دورات المياه تنظيفًا بيتيًا كاملاً متقنًا، قال لي: أيُعقل أنّ هذا شأن المسجد ؟ قلت له: هذا بيت الله عز وجل، يجب أن يكون مثلاً أعلى في كل شيء، فمَن يقوم بهذا العمل إنسان محترم جداً، له مكانته، له ثقافته، بينه وبين الله، يقول: لعلك يا ربي ترضى عني.
وقد زرت مرة مسجدًا، فيه خادم مَن أندر الخدام في المساجد، يستحيل أنْ تصلي بثياب لونه أسود، ويبدو شيء عليه، السجاد يُكنس كل يوم، وينظف بالشامبو، البلور ملمع، وكأنه الآن مركب، وتوفى نسأل الله أنْ يرحمه، قال لي: أنا حسبي من عملي هذه الآية.
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾
( سورة البقرة الآية: 125 )
ما دام سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء شرفه الله بتطهير بيته، هذه الآية تغطي كل خَدَمِ المساجد، ونظافة مسجدنا قضية جهد شباب، يأتي يوم الخميس عشرون إلى ثلاثين شابًا، يمسحون البلور، وينظفون، ويرتِّبون السجاد بنفوس راضية، وهم في أعلى درجة من السعادة، هذا المسجد تنعمون به، وبنظافته بجهد شخصي، حسبةً عند الله عز وجل، بلا أجرٍ إطلاقاً لوجه الله.
يا رب عملت هذا العمل وهذه إمكانيتي، فشخص إمكانيته أنْ ينظف، هذه تقبل منه وزيادة، إنسان بعلمه، إنسان بعمله، إنسان بخدمته، إنسان ببذله، إنسان بطبِّه، إنسان بهندسته، كل إنسان يقدم شيئًا. فحينما تؤمن باليوم الآخر إيماناً حقيقياً تجد نفسك مندفعًا إلى البذل والعطاء، بشكل يفوق حد الخيال .