هل يمكن للبشر رؤية الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم يقظة عياناً ؟
كنا قد قمنا بمسيرة احتجاجية كبيرة بالعاصمة
لمساندة الشعب الفلسطيني والشعب العراقي ضد الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي
، بعد انتهاء المسيرة سمعت بعض الإخوان والأخوات يتحدثون أنهم رأوا سيدنا
جبريل نازلاً من السماء وكذلك رأوا سيدنا محمد ( ص ) والكثير من الملائكة
يرافقونهم ، تأييداً لهذه المسيرة ، فهل هذه المشاهدات قد تكون حقيقية
ويجب علينا تصديقها وإلا سوف نعاقب بسوء الظن في إخواننا المسلمين ؟
بالنسبة لي لم أستطع التصديق علما أن أهل بدر والصحابة الأجلاء العشرة
المبشرين بالجنة لم يروا الملائكة الكرام بالعين المجردة ولا رأوا سيدنا
جبريل ! فهل نستطيع أن نقول إن هذا وهَم المشاهدة ؟ أي : تخيل رؤية الشيء
حتى يصبح حقيقة يصدقه العقل وتراه العين ؟.
الحمد لله
أولاً :
ثانياً :
لا ينبغي اختصار الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
بحرف الصاد ، ولا بكلمة " صلعم " ! ومن كتب مثل هذا السؤال الطويل لا يعجزه كتابة
الصلاة والسلام عليه كاملة .
ثالثاً :
الملائكة خلقت من نور – كما رواه مسلم ( 2996 )
- ولا يمكن لأحدٍ أن يدَّعي أنه رآها على صورتها الحقيقية إلا أن يكون نبيّاً
يُصدَّق قوله ، وأما أن يراهم متشكلين على هيئات أحدٍ من البشر فيمكن هذا لعامة
الناس وخاصتهم ، وقد جاء في السنَّة النبوية من ذلك كثير ، سواء في هذه الأمة أم في
الأمم التي قبلها .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو موفور العقل والدين لم
يحتمل رؤية جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها ، فكيف
أطاقه هؤلاء - هذا إن سلَّمنا أنهم رأوه أصلاً - ؟!
قال الشيخ عمر الأشقر :
ولما كانت الملائكة أجساماً نورانيَّة لطيفة ؛ فإن العباد لا
يستطيعون رؤيتهم ، خاصة أن الله لم يُعطِ أبصارنا القدرة على هذه الرؤية ، ولم يرَ
الملائكةَ في صُوَرهم الحقيقية من هذه الأمَّة إلا الرسول صلى الله عليه وسلَّم ؛
فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلَقه الله عليها ، وقد دلَّت النصوص على أن
البشر يستطيعون رؤية الملائكة إذا تمثَّلت الملائكة في صورة البشر .
" عالَم الملائكة الأبرار " ( ص 11 ) .
وقال أيضاً – في سياق إثبات بشرية الرسل والرد على من اقترح أن
يكونوا من الملائكة - :
الرابع : صعوبة رؤية الملائكة ، فالكفار عندما يقترحون رؤية
الملائكة ، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة ، ولا يعلمون مدى
المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك .
فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل ، فالرسول صلى الله
عليه وسلم مع كونه أفضل الخلق ، وهو على جانب عظيم من القوة الجسميَّة والنفسيَّة
عندما رأى جبريل على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده ، وقد كان صلى
الله عليه وسلم يعاني من اتصال الوحي به شدّة ، ولذلك قال في الردّ عليهم : ( يومَ
يروْنَ الملائكةَ لا بُشرى يومئذٍ للمُجرمين ) الفرقان/22 ،
ذلك أنَّ الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب ، فلو قُدّر
أنّهم رأوا الملائكة لكان ذلك اليوم يوم هلاكهم .
فكان إرسال الرسل من البشر ضروريّاً كي يتمكنوا من مخاطبتهم ،
والفقه عنهم ، والفهم منهم ، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة لما أمكنهم ذلك (
ومَا مَنَعَ النَّاس أنْ يؤمنوا إذ جاءَهُم الهُدى إلاّ أنْ قالوا أبَعَثَ اللهُ
بشراً رسُولاً . قُلْ لو كان في الأرضِ ملائكةٌ يمشون مطمئنينَ لنزّلنا عليهم من السّماء
ملكاً رسُولاً ) الإسراء/94، 95 ، أما وأن الذين يسكنون
الأرض بشر فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم ( لَقَدْ مَنَّ اللهُ
على المؤمنينَ إذْ بعثَ فيهم رسُولاً من أنفسِهِم ) آل عمران/164
.
وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر
وسهولة فيقتضي هذا - لو شاء الله أن يرسل مَلكا رسولا إلى البشر - أن يجعله رجلا (
ولَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لجعلناهُ رَجُلاً ولَلَبسْنا عليهم ما يلبِسون )
الأنعام/9 .
والتباس الأمر عليهم بسبب كونه في صورة رجل ، فلا يستطيعون أن
يتحققوا من كونه ملكاً ، وإذا كان الأمر كذلك فلا فائدة من إرسال الرسل من الملائكة
على هذا النحو ، بل إرسالهم من الملائكة على هذا النحو لا يحقق الغرض المطلوب ،
لكون الرسول الملك لا يستطيع أن يحس بإحساس البشر وعواطفهم وانفعالاتهم وإن تشكل
بأشكالهم .
" الرسل والرسالات " ( 72 ، 73 ) .
رابعاً :
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فهو من أقوال المخرفين
من الصوفية ، ولا أصل له في الشرع ولا في واقع الحال ، وقد وقعت للصحابة رضي الله
عنهم أمورٌ عظيمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، وكانوا في أمس الحاجة لوجوده
بينهم ، فَلِمَ لمْ يظهر لهم ؟ ولم يروه وهو أحب الناس إليهم ، وهم أحب الناس إليه
؟!
وأما استدلال بعضهم بالحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ) على إمكانية رؤية
النبي صلى الله عليه وسم يقظة : فليس فيه ما يدل على ما قالوه ، بل هذا فيه البشرى
لمن رآه في المنام أن يراه في الجنة ، وليس المعنى أنه يراه يقظة في الدنيا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع - يعني الرؤية - بعيني الرأس
حقيقة .
" فتح الباري " ( 12 / 384 ) .
وقال النووي رحمه الله في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
(فسيراني في اليقظة) : فيه أقوال :
أحدها : أن يراد به أهل عصره ، ومعناه : أن من رآه في النوم ولم
يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عياناً .
وثانيها : أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة ؛
لأنه يراه في الآخرة جميع أمته .
وثالثها : أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول
شفاعته ، ونحو ذلك .
" شرح مسلم " ( 15 / 26 ) .
ولا يتعارض ما ذكره النووي في القول الأول مع ما أنكره الحافظ
ابن حجر ؛ لأن النووي ذكر أنه يراد به أهل عصره صلى الله عليه وسلم ، وما أنكره
الحافظ إنما هو لمن زعم الرؤية حقيقة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو العباس القرطبي – ردّاً على من قال برؤيته صلى الله
عليه وسلم يقظة - :
وهذا يدرك فساده بأوائل العقول ، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا
على صورته التي مات عليها ، وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين ، وأن يحيا الآن
ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره
من جسده ولا يبقى في قبره منه شيء ، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب ؛ لأنه جائز
أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره .
نقله عنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 12 / 384 ) .
وأيضاً لو كان صحيحاً أن أحداً يرى النبي صلى الله عليه وسلم
يقظة لكان عداده في الصحابة ولاستمرت الصحبة إلى يوم القيامة .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة
من المتصوفة " أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في
اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر
كذلك " ! ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله :
" وهذا مشكل جدّاً ، ولو حمل على ظاهره : لكان هؤلاء صحابة ،
ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ، ويعكِّر عليه أن جمعاً جمّاً رأوه في المنام
ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة ، وخبر الصادق لا يتخلف .
" فتح الباري " ( 12 / 385 ) .
وفي رد علماء اللجنة الدائمة على عقيدة التيجاني قالوا :
ولم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا سائر الصحابة رضي الله عنهم أن
أحداً منهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة
، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن التشريع قد أكمل في حياته صلى الله عليه وسلم ،
وأن الله قد أكمل للأمة دينها وأتم عليها نعمته قبل أن يتوفى رسوله صلى الله عليه
وسلم إليه ، قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) المائدة/3
، فلا شك أن ما زعمه أحمد التيجاني لنفسه من رؤية النبي صلى الله
عليه وسلم يقظة وأنه أخذ عنه الطريقة التيجانية يقظة مشافهة ، وأنه عيَّن له
الأوراد التي يذكر الله بها ويصلي على رسوله بها لاشك أن هذا من البهتان والضلال
المبين .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 325 ، 326 ) .
وقالوا أيضاً :
فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما بلغ الرسالة وأكمل
الله به دينه وأقام به الحجة على خلقه ، وصلى عليه أصحابه رضي الله عنهم صلاة
الجنازة ، ودفنوه حيث مات في حجرة عائشة رضي الله عنها ، وقام من بعده الخلفاء
الراشدون ، وقد جرى في أيامهم أحداث ووقائع فعالجوا ذلك باجتهادهم ، ولم يرجعوا في
شيء منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن زعم بعد ذلك أنه رآه في اليقظة
حيا وكلمه أو سمع منه شيئا قبل يوم البعث والنشور فزعمه باطل ؛ لمخالفته النصوص
والمشاهدة وسنة الله في خلقه ، وليس في هذا الحديث دلالة على أنه سيرى ذاته في
اليقظة في الحياة الدنيا ؛ لأنه يحتمل أن المراد بأنه : فسيراني يوم القيامة ،
ويحتمل أن المراد : فسيرى تأويل رؤياه ؛ لأن هذه الرؤيا صادقة بدليل ما جاء في
الروايات الأخرى من قوله صلى الله عليه وسلم : " فقد رآني " الحديث ، وقد يراه
المؤمن في منامه رؤيا صادقة على صفته التي كان صلى الله عليه وسلم عليها أيام حياته
الدنيوية .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 1 / 486 ، 487 ) .
وخلاصة ما سبق :
أنه لا يجوز لأحدٍ – بعد الأنبياء - أن يدَّعي رؤية الملائكة ؛
فهم أجسام نورانية لم يجعل الله تعالى في مقدور البشر رؤيتهم إلا إن تشكلوا .
ولا يجوز لأحدٍ أن يدَّعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ،
ولعل هذه الأوهام والخيالات كانت من بعض مَنْ ليس عنده علم شرعي ولا عقل ناضج فراح
يتخيل ويتصور وجود ما لا حقيقة له .
والله أعلم .